ذكريات معيشتي في بريطانية
أنثر الغرائب والطرائف، والأفكار والوجدان، وصنوف الناس وأطباعهم، وحسنات البلاد ومساوئها.

لم أتشوّف يومًا لبلاد الغرب، ولم تشرئب عنقي إليها، ولا كرهت شيئًا أكثر من كرهي سُكناها.
فأردت كل أسباب البُعد عنها، وأراد الله أن أقيم بها زمنًا؛ فتعلمت كثيرًا، ووعيت بما لم أعي به قبلًا. فالغُربة صقلتني، وأنبتت بذورًا جهلت وجودها، وزادت من تقديري وشكري لكل النعم التي فقدتها.
وساكنت أهل بريطانية وناقشتهم وحادثتهم، ورأيت ثقافتهم وبلادهم؛ فمنها الحسن، ومنها السيئ. ومرّت بي طرائف ولطائف، وأحببت أشياءَ وكرهت أشياءَ، وزارني الأنس والحزن؛ فأردت أن أخط هذه المقالة، تخليدًا لهذه الرحلة التي استمرت ثلاثة عشر شهرًا، فهي عزيزة على قلبي، كما كانت ثقيلة أحايين كثيرة. حتّى لا أنسى، ولأقصّ عليكم بعض ما شهدته، وبعض التأملات والمفارقات.
البداية
ذكرت كرهي لسكنى بلاد الغرب فما أنا التي رُمتها ولا أنا التي قصدت إليها السبيل، وما كنت بحاجة إليها، فكتب الله لي أن يخطِبني مبتعث-والحمد لله أن فعل-. وكان أخوف ما أخافه قبلًا أن أتزوج مبتعثًا فأقضي سنينًا في الخارج! لكنّ ما هوّن عليّ أنه كان في سنته الأخيرة، وقال لي إن المتبقي قرابةُ ثلاثة أشهر؛ فقُلت: جميل! أعتبرها سياحة إذن!
غير أننا زدنا على الثلاثة أشهر عشرًا أخرى، وما كان تقصيرًا منه، بل لانشغال مُشرفه الذي كان يُخلف المواعيد
والحق أنه كان خيرًا، وأيقنت بعدها أنه كان أنسب أمدٍ ما قلّ ولا نقص.
ومع ذلك تخولني القلق؛ فاجتمع عليّ انتقالان لا يُنكر أحدٌ تأثيرهما في الإنسان: انتقالي من العزوبة إلى الزواج، وتركي بلدي وأهلي إلى بلاد غربة!
ما زلت أذكر ليلة السفر، ودّعت أهلي وذهبنا إلى جدة وبتنا ليلتنا تلك في فندق المطار؛ فرحلتنا إلى مانشستر في البكور. تسامرنا ليلتها وسألني زوجي أراضية أن آتي معه؟ فقد كان يجد في نفسه لومًا لإبعادي عن أهلي وهو المجرّب الكاره لإحساس الغُربة والوحدة، فطمأنته بأنّها بداية رحلة سعيدة بإذن الله!
وطلبت وقتها وسط دموعي من باسكن روبنز طلبي الأحب: كعكة الحليب مع المثلّجات لتبرّد علينا وتواسينا، ويا للخيبة! فقد جاءت يابسةً على غير ما عوّدتني! والمُحزن أنّي ما وجدتها في بريطانية، ولمّا عدت إجازة إلى السعودية بعد غياب ثلاثة أشهر وشوقي بلغ مبلغه إليها، لم تعُد تباع إلى يومنا هذا! فكان فراقًا لم أحسب له حسابًا! لعّل لا أحد كان يشتريها غيري.
وضعنا رحالنا في بريطانية في مدينة تدعى وِقَن (Wigan) في الثاني والعشرين من ديسمبر من عام 2022.
كان موسم عيدهم الكريسمس فكل شيء مغلق لذا أجّلنا جولتنا لشهر العسل إلى حين ينقضي.
ولا أنسى صباح الكرِسمس، كان أشبه بظهر العيد عندنا، فالشوارع لا تسمع فيها ولا تحس منهم أحدًا.
وخرجنا نتمشى وما كان ثالثنا أحد، أذكر أننا تصورنا في كل مكان ثم اشترينا حليبًا مخفوقًا، وليس مفتوحٌ سوى محلات المسلمين ولا أسعد مني يومها وأنا أرى محلاتهم تخلو من زينة الكريسمس التي كانت في كل مكان آخر، فقد كان عملًا يوحي أنّه لا شأن لنا نحنُ المسلمين في هذا العيد. وتأملت وقتها ثبات هؤلاء وهم يعيشون بين ظهرانيهم، وتجد بعض من يسكن بلاد الإسلام يحتفل ويلبس لباسهم، وهم ما دروا عنه!
وهذه صور الشوارع يومها:


طبائع أهل بريطانية
أخوف ما كنت أخافه قبل أن آتي هو معاملة أهلها المسلمين، وخاصةً لحجابي، وطُمئنت بأنهم قومٌ سُمحاء سهلون، ولا يهتمون لاختلاف غيرهم.
فجربتهم وصِدقٌ ما قيل، فاللين يغلب عليهم، والأدب في المعاملة سمتٌ فيهم، إلا أنه أدبٌ مزعجٌ أحيانًا!
فممّا استغربته بدءًا؛ طبع لديهم إن مرّ أحدهم بجانبك -ووالله لم يمسّك ولم يدفعك والطريق وسيعٌ يسع جملين- يقول لزامًا: "أعتذر". وإن جلس أحدهم بجانبك في مكان عام؛ مثل القطار، أو الترام؛ لا بد قائل قبيل أن يجلس: "أعتذر" وكأن المكان باسمك ليس مكانًا عامًا! وهذا ما اعتدته عندنا أبدًا فكنت أستعجب حق التعجب، وسرعان ما تشبّهت بهم فصرت أتسوسر-من sorry- كثيرًا مثلما يفعلون كي لا أكون الوقحة في أعينهم! وهذا من أدب الغريب، أن يتطبع بآدابهم في التعامل ما لم يكن في حرامٍ.
ولكنّ بعضًا من لطفهم هذا وتسامحهم باب فتنة عظيم لمن لم يحفظه الله. فذات يوم ركبت القطار من وِقن إلى مانشستر، فنسيت حقيبتي في القطار وتذكرتها قبل أن أخرج من المحطة، فذهبت إلى الأمن وأخبرتهم بذلك فأحالوني إلى مكتب أظنّه مكتب رئيسهم، فلمّا رآني قال: السلام عليكم، رمضان كريم. ثم سألني عن المشكلة، وما كان مسلمًا! وما كنت أنتظر منه أصلًا تهنئة، لكن هذا طبع كثير منهم يشاركون الجميع، وهذا راجعٌ لإيمانهم بالليبرالية، وكلٌ له دينٌ.
ولمّا رجعت قصصت لزوجي ما حدث ثم قلت: والله إن هذا اللطف باب فتنة! لأنه يمس العاطفة، وأكثر الناس يتبعون عاطفتهم وإن ادّعوا العكس؛ ففطري في الإنسان أن يميل لمن يلاينه ويشاركه أشياءه، فلا أستغرب أن أجد كثيرًا من المسلمين هنا يشاركون الكفار في أعيادهم ويهنئونهم بتبريرهم: هم يهنئوننا ويحتفلون معنا! فوالله أنا التي أراني محصّنة الفكر بفضل الله ورحمته، إلا أنني كنت أجد في نفسي أحيانًا حرجًا من ذلك!
ومن طباعهم أنهم لا ينظرون إلى أحد، فغالبًا يمشون ولا يلتفتون، فتطمئن بأنه ليس ينظر إليك أحدٌ فترتاح.
والمسنون عندهم أدمث أخلاقًا من شبابهم، فيحيّونك إذا مروا بجانبك ويبتسمون، ويتحدثون ويختلطون بالناس أكثر من الشباب، فالفردانية لم تتمكن منهم كما الشباب، وهم أرحمهم قلوبًا وأكثر عونًا للمشردين، فغالبًا ما أراهم يتصدقّون عليهم.
وأذكر مرة كنا نتمشى في حديقة فمرت عجوز بريطانية ولمّا رأتني قالت: "السلام عليكم"، وكثيرون يحيوننا بتحيتهم الإنجليزية.
تصادم الثقافات
أمّا تصادم الثقافات فحدث ولا حرج. أول صدمة لي كانت في القطار من مانشستر إلى لندن، كان مزدحمًا فلم أجد مقعداً، وما كنت وحدي؛ بل كثيرٌ كنّ مثلي، وما استغربته أنّي رأيت الرجال قاعدين والنساء واقفاتٍ أو جالسات على الأرض في الممرات! وهذا المنظر يستحيل أن نراه عندنا، فليس من المروءة أن تقف المرأة والرجل جالسٌ، لكنها المساواة عندهم!
ودعوني أحكِ لكم عن موقف طريف، أذكر أنني واعدت زميلتي البرازيلية على زيارة معرضٍ لفان جوخ الذي كنا نتشارك حب فنه، وزميلتي هذه اسمها روزانا، أناديها روز. واتفقنا أن نركب القطار ونلتقي في مدينة يورك، وقد أتى زوجي معي ليوصلني ثم ينتظر في مقهى، والتقيتها حيث تواعدنا، ودخلنا المعرض ثم تسوقنا وأتى وقت الغداء، فأخبرتها أنّي سأذهب قليلًا لأضع هذه الأكياس بيدي عند زوجي، فذهبت وفعلت ولمّا عدت قلت لها هيّا بنا، فتعجبت وقالت: ألن يتغذى زوجك معنا؟ ضحكت ولم أعلم من أين أبدأ لأشرح لها، واستثقلت الشرح إذ كأن برزخًا يفصلنا، فقلت لها: لا، اليوم يوم الفتيات. وما نسيت ضحكنا لما قلت له ما قالت في براءة، والتباين الكبير بيننا وبينهم.
تأملات
ما أكثر ما تفكّرت في هذه الرحلة وتأملت في أشياء، فالإنسان إذا خرج ممّا اعتاد لا بد واقعة المقارنة في قلبه، وإذا عرضت له أشياء جديدة طفق يحللها، وكان لي نصيب كبير من هذا؛ فأول ما لحظته في شوارعهم التضارب العمراني، فكأنك ترى الماضي حاضرًا في الحاضر، فعلى يمينك ترى مبنًى بُني في العصر الفكتوري وتعجب لعظيم بنيانه، وجمال زخارفه، ودقيق نقوشه، وعتيق ألوانه، فما تلبث أن تُسبّح الله فيما علّم الإنسان. وعلى يسارك ترى مبنًى حديثًا، حديدًا خالصًا، بلا أي روح فيه ولا فن ولا جمال كأنه الإنسان الحديث، ولا عجب إذ كلّ يمثل صُنّاعه.
وأكثر ما لحظت هذا في شارع أكسفورد في مانشستر ومباني الجامعة هناك، فمنها الذي بُني حديثًا وكان كما وصفته، ومنها القديم الذي رُمم واتخذوه مقرًا، وكأنك تمشي بين الماضي والحاضر في التقاء لا يكون إلا في الخيال.
وأضع بين يديكم صورًا لتروا بأنفسكم:

وعلى ذكر العمران فإني لا أجد في نفسي ميلًا إلى حديثها، ولا تحمست مرةّ لطلوع أعلى مبنًى مثلًا، تلك التي تُسمّى ناطحات سحاب. وأجد لبّي يُسلب عند قديم المباني، وهذا ما جعلني أتفكر في سؤال: لمَ نميل إلى القديم ويجمل في أنفسنا ؟ ألجماله حقًا؟ أم لأن الإنسان حبيس الماضي فيحب أن يراه أفضل من كل شيء؟ أويعني هذا أن العمران الذي أمقته الآن ولا أرى فيه مسحة من جمال سيأتي من بعدي من يراه جميلًا بديعًا؟ الله أعلم.
ومرةّ زرنا متحفًا للترامات اسمه Crich Tramway Village، وهي أشبه بباصات لها سكة حديدية في الشوارع، وما تزال إلى الآن موجودة في أغلب المدن البريطانية. وفي المتحف هذا ترامات قديمة من أول ما اٌخترعت، بعضها تركبها وتجرّبها.
والسائقون كانوا يرتدون زيًا قديمًا، أحسست وقتها كأنني في فلم. ثم دخلنا المتحف وفيه ترامات كثيرة، كُتب عليها سنة تصميمها، فتنقلت عيني من أقدمها إلى أحدثها، فلحظت ضمور الجمال شيئًا فشيئًا، إلى أن وصلت إلى عام 2000 إن لم تخنّي ذاكرتي، صار الترام سادةً -إن صح التعبير- . وقبلها رأينا الطابعة القديمة، كانت كبيرة ومزينة بأسد ونقوشٍ ذهبية، فقال لي زوجي انظري؛ كانوا يتفننون ولا يفصلون الفن عن الصنعة، حتّى صاروا لا يهتمون للزينة والجمال والمهم أن يكون عمليًا بأقل التكاليف!

وقبل عروجي إلى موضوع آخر، أقصّ لكم عن صدفة حسنة؛ مرةً كنا نمشي في شوارع مانشستر، ووالله إنّ هذا الطريق مررنا به كثيرًا، لكن شاء الله أن ننتبه لهذا المبنى العريق وقتها، نظرت إلى الرصيف الآخر فدُهشت بمبنى عريق جميل، وأطلت النظر فإذا هو بمكتبة، ظاهرة بينة لافتة للأعين من حولها، فدخلناها من فورنا، ولا أدري كيف أعبّر وقد رأيت أحب شيئان إلي؛ الكتب في مكتبة قديمة.
كانت المكتبة من دورين، تحدها نوافذ زجاجية ملونة تصبغ المكان بأشعة الشمس، وتحيطها تصاوير وتماثيل، وتمثالان يحدان أطراف غرفة الكتب لصاحبة المكتبة وزوجها، واسعة ممراتها، رحبة أركانها، تحيطها الكتب من كل الجدران، ويتوسط كل مكان طاولات وكراسي، وترى الكتب والمخطوطات كلها قديمةً، مصنفة تصانيفًا، ورأيت بعضها عن الإسلام، ولكن لا سبيل إلى قراءتها إلا بتصريح. أما المكتبة نفسها فتستقبل السيّاح، وكذا من يأتي ويدرس ويقرأ بها، وكنت قررت أن آتي يومًا وأكتب مقالةً بها؛ ولكن الله لم يشأ. وهذه صور للمكتبة:


وكأي أحدٍ يخرج من بلاده، لم ألبث وقتًا حتى أحسست بنعمة بلدي، أوّلها الانتماء، فمؤلمٌ أن تنظر حولك فترى الأرض غير الأرض التي ألِفتها، والسماء غير السماء، والوجوه من حولك تنكرهم، ولا رابطة تجمعكم، وتُسلب الحميمية، ولا تعرف الطمأنينة كاملةً كما تحسها في بلادك، فغريب أنت وأجنبي. وتُحرم من صوت الآذان، ومن نعمة المساجد في كل زاوية.
لكنّها رحلة جميلة ماتعة يخالطها اليسر مع العسر، تصقل قوتك، وتمد في صبرك، وتزيد من حبّك لكل شيء زهدته، وتمثلت بيت ابن الوردي الذي يقول فيه:
حبك الأوطان عجز ظاهر فاغترب تلق عن الأهل بدل
فبمكث الماء يبقى آسناً وسرى البدر به البدر اكتمل
نعم، لعمري إنّها اجتثت طباعًا ما كنت أدري عنها، وهذّبت أخريات، ووهبتني من الحكمة، وأذاقتني من الحزن.
أعظم ما خرجت به من هذه الغربة، وأحبُّ ما وهبتني، وما أظنني كنت أوهبه لو لم أتغرب، اعتزازي واستعلائي بأني مسلمة، وثقل مسؤولية أني مسلمة في بلاد كفرٍ. فكُنت أحب حجابي حبًا جمًا، وعلمي بأن الناظر إلي يعلم ديني دون فعلٍ منّي، فأي عزّة أن يتكلم شكلي عن هويتي الأولى والأهم، وهذه نعمة يفقدها الرجال غالبًا.
مرةً رأيت مشردًا فأعطيته مالًا، فقال لي زوجي: لمَ لم تقولي أي شيء يدل على الإسلام؟ كقولك مثلًا: هداك الله(بلسانهم)، فأجبته سريعًا أنّ مظهري يدل على الإسلام! فلا حاجة إلى الكلام وكل ما فيني يتكلم!
والمسلمات ما إن يرينني يبتسمن لي ويسلّمن، ويحترمني كل الرجال مسلمهم وكافرهم.
ولا ينتهي عند الفخر والاعتزاز، بل هي مسؤولية عظيمة، فكل حركة وكلمة تُحسب على نظرتهم للإسلام، فشئت أم أبيت أنا مسؤولة ألّا يظن ظانٌ بالإسلام إلا خيرًا، وهذا ممّا بصّرني به زوجي، فكم قصّ عليّ أنه في دراسته كان دائم التذكر أنه مسلم، وأن أي فعلٍ أو كلمة سترجع إلى الإسلام.
وشيء آخر كان جديدًا علي، وهو الفخر، فرأيت بعين اليقين معنى أن تفخر بأحدٍ كفخرك بنفسك بل أشد، وما جرّبت هذا قبلًا حتّى يوم مناقشته لرسالة الدكتوراة، وبعدها حفل تخرجه، إذ أنّي ما فرحت قبلها فرحًا أشد من يوم تخرجي، لأني رأيته عتقًا بعد ما قاسيته من الجامعة وذكرياتها المريرة، إلا أني يوم المناقشة، بل قبلها بأسابيع بلغ مني الحماس مبلغه.
ويوم خرج من غرفة المناقشة مجتازًا أحسست أن سعادة الدنيا كلها قد كٌتبت لي، بل وأثناء وجوده؛ إذ كنت أسترق النظر من الخارج وكأني بقلبي منطلقًا يطير في الهواء مسرورًا. والحق أن فرحي لم يكن لأتفاخر-وإن كان شيئًا يُفخر به- لكنّ شعوري أنّي افخر بهذا وأحب هذا لأني أُحبه هو، فأحب كل ما يتعلق فيه ويفعله، لا أنّي أحب شهاداته ومنجزاته فأحبه، والفرق بينهما جليٌ.
أناس عرفتهم
دعوني أروي لكم عمّن عرفتهم وعايشتهم من أهل البلاد وزوّارها.
مخالطتي للناس أكثرها في معهد اللغة الإنجليزية في مانشستر. أوّلهم روز من ذكرتها آنفًا، قد لقيتها ثانِ يومٍ من دراستي، جاءت حاملةً مظلة عليها رسمة شجرة اللوز لفان جوخ وهذا ما لفت ناظري بلا مرية، فبدأتني التحية ورددتها، وسألتني عن اسمي فأجبتها وسألتها بالمثل، ثم أثنيت على مظلّتها ومن هنا بدأنا نتحدث عن الفن وعن فان جوخ. قالت لي إّنها ابتاعتها من متحفه في هولندا، وأرتني صورًا وبعضًا ممّا اشترته، فصار هذا غالب كلامنا، وكان حظي عظيمًا إذ صحبت من لا تجيد لغتي حتّى أتعلم الإنجليزية، وتحب ما أحب! وكذلك كانت تحب القراءة. كانت تكبرني بتسعة أعوام، وأصدقكم أنّي لم ألتمس فرق السنين. أما طباعها فكانت سهلة المعشر، لينة الطباع، وسيعة الصدر، بشوشة الوجه ومرحة السجية. وكانت رحّالة تهوى السفر، فسافرت إلى بلدان كثيرة، وحدثتني أنّها كانت تجمع مالها لهذه الرحلة، أظنها تستمر سنةً، فذهبت إلى بعض بلاد أوروبا كألمانيا وهولندا وإسبانيا، وزارت المغرب، وجاءت بريطانية وقضت أطول مدة فيها؛ لتزيد في لغتها، وكانت علتها للدراسة أن تتواصل مع الناس أكثر إذ أن لغتها البرتغالية لا تتكلمها إلا دولتان، فجذبني سببها إذ أن الأغلب كان يدرس للدراسة أو الوظائف، فأحسست بقربٍ لأن سببي للدراسة أنّي اُحب اللغة وأريد تعلمها لنفسي لا أكثر.
ما لبِثتْ إلا شهران، وأهديتها يوم ختامها المعهد هدية نسيت محتواها، ما عدا قرآنًا ووشاحًا عليه رسمة ليلة النجوم لفان جوخ، وأهدتني هي كتابًا اشترته من المتحف الذي زارته فيه اقتباساتٌ لفان جوخ، وكان مليئًا بتعليقاتها وترجماتها لكلماتٍ بلغتها الأم.
وأحكي لكم عن معلّمي صامويل، كنا نناديه ب(سام) إذ أنّهم قومٌ يحبّون الاختصار حبًا جمًا، فجل أسمائهم مختصرة، وأذكر أن زميلتي نادتني مرّة ب (Am) فضحكت على انقلابي من أمجاد إلى أم!
أمّا سام فكان فكهًا ظريفًا لا تملّ من صفه إلا قليلًا، وكان كثير الجدل مُسببًا له، وأغلب ظنّي أنه لا يقصد ذلك.
ومثل كثير من البريطانيين، كنت أحسّ منه بالتناقض، فيؤمنون بنسبية الحق، وأنّه لا شيء مطلقٌ، ثم تراهم يستنكرون عادات لا تُعجبهم ويرونها تخلفًا وجرمًا، إن لم يكن صراحة فضمنًا، ولا ننسى أنّهم يدعّون النسبية ويجعلون ادّعاءهم هذا مطلقًا!
فهو دائم القول بمساواة الرجل والمرأة، ويكره توزيع الأدوار بين الزوجين، ويكره أن تكون المرأة ربة بيت إلخ.
كان أكره شيء إليّ لمّا يفتح لنا نقاشًا كهذا كي نرتاض اللغة.
ومرةّ كان يختبرنا فيأخذ كلًا على حدى لاختبار التحدث، فسألني عن رأيي في أشياء وخيّرني في أشياء، منها ما لا أنساه إذ سألني: أتحبين زوجك أكثر أم صديقتك؟ فقلت إنّي أحب كلاهما، فأصر عليّ أن أختار، فقلت له إنّي أكره هذه الأسئلة أصلًا لأنها بُنيت على أساس خاطئ، فحبي زوجي غير حبي صديقتي وغير حبيّ أهلي، فالإنسان والله يحتاج إلى كل هذه الأنواع من الحب، وما أظلمنا إذ أردنا واحدًا منهم أن يكون جميعهم!
فقال لي سأُصّعب السؤال: إن كان زوجك في محنة وصديقتك كذلك، وأنت لا تقدرين إلا مساعدة واحد منهما، فمن تساعدين؟ فقلت له: من يحتاجني أكثر، ومن مشكلته أكبر ومن أكون على مساعدته أقدر! فضحك لجوابي ولم يُعد لمثله.
وذات مرةٍ خرجت من فصله بغير الذي دخلت، لم أكن مركزة كل التركيز لكنّي سمعت في نصف الكلام زميلة بلجيكية تتحدث معه وكانوا يتحدثون عن الأديان، فسألته إن كان متدينًا فقال إنه ملحد فأجابته بأنها كذلك، أذكر أنّي بغضته في الله بغضًا شديدًا ما كان قبل اليوم.
لكنّي أحببت أن أهديه على معروفه في آخر يوم لي في فصله، فاشتريت أشياءً من ثقافتنا، كمبخرة وبخور، ولا أذكر الباقي غير ميدالية، وأهمها نسخة ترجمة القرآن. ولا أدري أقرأه أم لا، لكنّي أرجو أن يهديه الله ويشرح صدره للإسلام.
ولأني امرأة تكره الدوام اليومي ولا تطيق الانتظام، وهذا من أسباب كرهي للدراسة الأكاديمية والنظامية، فأنا أحب الحرية والمرونة لذا أُفضّل الدراسة الحُرة، وإلا كرهت ما أدرس!
فكنت أترك المعهد شهرًا أو اثنين ثم أسجّل مجددًا، فأول مرةٍ درست شهران ونصف مع سام، وارتحت شهران ثم عدت فكان معلّمي الجديد اسمه يوسف وتلك أطول مدة درستها مع معلمٍ. ويوسف هذا من أغرب من قابلت وأعجبهم. انشرح صدري لمّا علمت أنّه مسلم، وهو بريطاني من أصول باكستانية، وإن كنت واصفة إياه فهو أظرف وأفكه من سام، إذ أنّي عانيت وكابدت مشقًة حتّى أمسك ضحكتي ولا يعلو صوتها في الفصل، فهو مزوحٌ مبالغ في المزح، فضوح يتكلم في خاص حياته ممّا أستنكره، كثير التذمّر والتشاؤم؛ فما أنسى أول يومٍ لي معه، أتيت فسألني عن اسمي ودولتي وسبب مجيئي فقلت له أنّي أتيت مع زوجي في غرض الدراسة، فسألني منذ متى تزوجت فقلت له ستة أشهر وكان هذا ما مرّ وقتها، فقال لي ناصحًا أن استمتعي الآن فبعد سنة أو سنتين سينقلب الحال! وما أكثر ما كان يشتكي من زوجته ويزهّد في الزواج ويسوّد صورته، لكنّ الحاذق يعلم أنه من الناس الذين يحبّون التشكي على كل شيء.
وكان معلمًا متقنًا حق الإتقان للتعليم، فما مللت مرةً من فصله، بل وازددت علمًا ومعرفة في وقت وجيز لأنه كان يجعلنا نكثر التحدث في مواضيع لا تُمل، وربمّا لأن فصلنا غالبًا ما كان أكثره مسلمون فكنا نتحدث كثيرًا في مواضيع تخصنا.
والعجيب أنّي استبشرت أنه مسلم فلن أسمع شبهات وأفكارًا كما كنت أسمع، إلّا أنه كان يفعل بعضًا من هذا، فكان ما يفتأ يذكر تعدد الزوجات ورأينا فيه، وغيرها من أشياء. وجميع من كان في فصلنا مسلمون إلا واحدة تايلندية، وبعدها جاء آخرون منهم فرنسيان وإيطالي، وكان يكمل هذه الشبهات ومراتٍ كان يقولها متسائلًا، وكان يغيضني أنّه لربما فتن المسلمين بما يقول ويسأل دون أن يوزن كلامه، ولربما صد هؤلاء الكفّار بدلًا من أن يقرّبهم إلى الإسلام.
فصله هذا دخلته في يونيو من عام م2023، بعد شهرٍ من وفاة والدي رحمه الله، ودراستي فيه ساعدتني وغيّرت من مزاجي في أيامٍ كثيرة.
واستمتعت أكثر من فصلي القديم، إذ كان ذلك في الصباح، فكان ينبغي لي أن أستيقظ قبل السابعة لأفطر وأتجهز ثم اركب القطار وأصل إلى المعهد قبل التاسعة، وقد صاحبني القلق أيامًا كثيرة فما كان يغمض لي جفنٌ إلا قبيل الذهاب بساعة! حتّى إن صوت المُنبه صار ذكرى مزعجة لي. وأنا شخصٌ يكره أن يستيقظ على دوامٍ أيًا كان!
أما فصل يوسف فكان الساعة الواحدة ظهرًا، فكنت أصحو وأفطر وأتقهوى وأقرأ وأكتب ولربما ذهبت وتريضت، ثم بعدها ذهبت إلى المعهد! فكنت أعود مرتاحة سعيدة نشيطة عكس ما كنت.
ومن طريف الأحاديث التي لا أذكر كيف بدأت، لكنّي أذكر أنها في المرأة، نسيت ما قلت فقال لي المعلّم: سترونق اندبندت ومن، فقلت مازحة غير مازحة: بل سترونق دبنتد وومن، فما العيب أن أكون قوية ومعتمدة على رجلٍ؟ كأننا نلغي الحاجة إليهم أو نجرّم الاعتماد عليهم في أشياءٍ كثيرة هي من حقوقنا عليهم.
مرةً قُسّمنا إلى فريقين، وكان المطلوب أن نُعطى رأيًا ثم منّا من يكون مع، والآخر ضد، ولا خيار لنا فهو اختيار عشوائي وما علينا إلا الحُجج.
ومن الآراء ما كان: الرجال أذكى من النساء. وكنا ضد، فبدأ الخصم واستدل لهذا بعلماء طبيعة رجال، فلم أسلّم أولًا بحجتهم بل هاجمتها وقلت: كيف ولمَ حصرتم الذكاء في العلوم الطبيعية؟ كان بإمكاني أن أعدد أسماء نساءٍ، ولعله أول ما يأتي على ذهن الإنسان، لكن الصحيح ألّا تُسلّم بحجة الخصم بدءًا بل هاجمها وبيّن ضعفها! لأنه بتسليمك أقررت بصحة ما لا دليل عليه!
وكان الرأي الآخر: الجامعة مضيعة للوقت، وكنا مّع، فبدأوا حجّتهم أنه من لم يدرس الجامعة فلا حظ له من العلم والمعرفة، فقلت: ولم حصرتم العلم والمعرفة في الجامعة وكأنه لا سبيل إليهما إلا بها؟
وبعيدًا عن أنها نقاشات للممارسة لم نختر رأينا فيها، لكن هذا الموضوع يهمّني حقًا، فأكره حصر العلم في الجامعة والدراسة الأكاديمية وأكره حصر العلم في غاية الوظيفة، لأن العلم شريف في ذاته، ولأنه سبله عديدة كثيرة أوسع من أن تُحصر في مجال واحدٍ! بل وهذا المجال على الأغلب قولب إلى مجرد سبيل للوظيفة فالدخل لا غير!
وما أردت إيصاله بهذه الأسئلة، ألّا تكون الأضعف في النقاشات والمناظرات، فلا تجيد إلا الدفاع عمّا يلقي خصمك، بل هاجم وحطّم مسلماته بدل أن تسلّم بها على عمًى! فمثلًا يكثر هذا الخطأ مع النقاش مع الملاحدة، ترى المسلمين يقضون جلّ الحوار مدافعين عمّا يلقي الكفّار من نبالهم، ولم يفكروا أن يلقوا سهامهم والعدو أضعف وأهش!
شذرات ومواقف
أسوق لكم من الأخبار التي حدثت لي مواقف مفرّقة، فيها المُضحك والغريب والمُخيف!
اكترينا كوخًا ذات مرةٍ، كوخ كما في أحلام الطفولة على شجرة، يتوسط الحقول والزهور، وتسمع خوار الأبقار مع الفجر، وتستمتع فيه بجمال الطبيعة والخلاء فلا بيوت حولك. لا عليكم من هذا كله، صاحبه تفضّل علينا وأوصلنا من أقرب محطة إلى الكوخ، إذ سابع المستحيلات أن تجد سيارة أجرة في تلك الأماكن المعزولة.
فتكرمًا منّا قبل أن نخرج منه نظّفناه وتركناه كما أخذناه، فكتب زوجي لصاحب الكوخ أننا فعلنا ذلك شكرًا له على إيصالنا. فبمَ تتوقعون أجاب؟ قال: جيد، وانظر إلى الصندوق في زاوية الغرفة، افتحه تجد فراشًا جديدًا فبدّله بالأول!
نعم هكذا كما نقلت لكم! فضحكنا والله من وساعة الوجه، وما زلت أستغرب من ذلك.

ومن طريف المواقف أيضًا ممّا يجتمع مع انعدام سيارات الأجرة أننا قصدنا ملاهي ألتون تاورز في شهر العسل، والطريق للوصول إليها بالقطار أن تنزل في محطة قرية قريبة من الملاهي اسمها أوتكستر، لكنك تحتاج إلى سيارة أو حافلة لتصل إليها، فالمشي مستحيل إذ يأخذ ثلاث ساعات!
ركبنا القطار ووصلنا إلى هذه المحطة في الصباح ونزلنا وما ندري ما ينتظرنا، وقفنا نتلفت حولنا فما نرى من مكان للجلوس إلا مكانًا مفتوحًا، فوقفنا عنده نتجمد من البرد وكان صباحًا من صباحات ديسمبر، وكنت أرتدي أربع طبقاتٍ فما تغني عنّي شيئًا، حتّى مع معطف المسكين زوجي ما زلت أتجمد، وطوال هذا الوقت ونحن ننتظر سيارةً من التطبيق فلا يوجد أحد! وما ندري ما نفعل والهواء يلفحني فما أطيق الوقوف، فذهبنا نبحث عن مكان مغلق فوجدنا أقربها محل أثاثٍ فدخلناه ندّعي أننا نريد النظر إلى الأثاث وما كنا نريد إلا الدفء!
ولما دفئنا بحثنا في الحافلات لمّا يئسنا من السيارات، فقرأنا مواعيدها ومكان توقفها وأقربها وسط القرية فخرجنا ووقفنا هناك ننتظر، وجاء الوقت ومضى وما نرى أثرًا لحافلة، ثم وجدنا أن الحافلات اليوم-من بين كل الأيام- لا تعمل!
فرحنا أقرب مقهىً كي نتدفأ ونشرب ونفكر فيما نفعل، ثم ربما بعد نصف ساعة جاء الفرج ووجدنا سيارة أُجرة!
أنصحكم ألا تذهبوا إلى المدن والقرى الصغيرة دون أن تحفظوا أرقام أجرة، فأوبر سينكبكم! بعدها ما ذهبنا قرية من القُرى إلا وسألت أهلها عن أرقام الأجرة، فالمؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين.
وأخوف ما عشته وأرهبهم ما حدث في مكان عيشنا وِقن.
كنا عائدين ظهرًا من البقّالة التي تبعد عن بيتنا ربع ساعة مشيًا، وفي نصف الطريق رأيت رهطًا جالسين على الركن ووجوههم لا تُبشر بخيرٍ كأنهم مٌتعاطون، وكان منهم واحدٌ ينظر إلي فكان خطئي أنّي لمحته ورآني ألمحه، فقاموا جميعهم وجاؤوا عندنا وأمرني زوجي بالذهاب بسرعة إلى المنزل، فهرولت عائدة وقد بلغ قلبي حنجرتي خوفًا عليه، إذ ليس ببعيدٍ أن يحملوا سكاكينًا فيطعنوه بها، وكنت أمشي واتلفت ورائي وأبحث في هاتفي عن رقم الشرطة الذي نسيته! فاتصلت عليهم وأنا أرتعش وأخبرتهم بالذي حدث وأنهم مع زوجي فليدركونا قبل أن تصيبنا مُصيبة، فأخذوا اسمي والعنوان والمكان. وما دخلت البيت بل وقفت في آخر الشارع أنظر وأخاف والله أن أرى ما لا يسرني، وجاء في بالي كل شرٍ وظللت أفكر فيما أفعل وأنا في الغربة، حتّى رأيت زوجي تركهم وأقبل إلي فدخلنا البيت ثم حكى لي أنهم سُكارى وما زالوا يشتمونه ويشتمونني ويهددونه حتّى تملّص منهم ومشى، والحمد لله أنها مرت هكذا، والله انفجرت بكاءً يومه فما خفت عليه وعليّ بعده أكثر من تلك الدقائق التي كانت كالساعات!!
وبعدها اتصلت علينا الشرطة وأخبرناهم أنهم ذهبوا ووصفنا لهم أشكالهم وما ندري الحقيقة أأمسكوهم أم لا، لكن هؤلاء الناس ليسوا غريبين عندهم، فليس نادرًا أن ترى متعاطي الحشيش.
ولبثنا فترة بعدها لا نقرب ذاك الطريق، ولا نرتدي ذات الملابس، وما صادفناهم مرة أخرى الحمد لله. ولا أحكي لكم هلعي بعدها وكل الأفلام التي عُرضت في مخي من الاحتمالات! فقد تزلزل الأمان وما أسوأه من شعور، لكنها كانت فترة والحمد لله أن مضت.

مرةً في صباح يومٍ من أيام المعهد، نزلت من الترام في وسط المدينة في مانشستر وكان معهدي في تلك المنطقة، ورأيت رؤوسًا أكثر من العادة وسوادًا عظيمًا، فلمّا اقتربت أبصرتهم أطفالًا في سن المراهقة يصرخون ويركضون وملأوا المكان بالضوضاء، والشرطة توزعت في كل مكان ولا أدري ما الذي يحدث وأريد سؤال الشرطة لكنّي هربت، ولمّا دخلت الفصل سألت الأستاذ عن الذي يحدث في الخارج، فلما وصفت له أنهم يلبسون سوادًا قال ربما هم الشيعة، وأنا أقول لا لا أظن. حتى جاء وقت الاستراحة فخرجت أشتري لي ماتشا ورأيت المنظر مثلما كان بل أسوأ، وحسبتها مظاهرة أو شيئًا كهذا فعدت مسرعة إلى المعهد فلا آمن والله ما يحدث! ثم وقت الانصراف فككت اللغز وعلمت! أتدرون ما كان؟ كانت إجازة طلاب المدارس! ولهذا هم متوزعون في كل مكان والشرطة كذلك في كل مكان خوفًا منهم ومن تخريبهم! ووالله حسنًا فعلوا، إذ كانوا وقحين طائشين مجانين! وصدّقوني مهما وُصف لكم من سوء الأشخاص، فلا أسوأ من مراهق أجنبي، لا هم يحترمون كبيرًا ولا يعطفون على صغيرٍ ولا يعرفون الأخلاق، وما يعرفون إلا البذاءة والتهور.
وكانوا طوال الأيام التي بعدها في كل مكان ورأيت العجائب، منها أني ركبت الترام وجلست في مقعد، ثم دخل منهم فتاتان وصبيٌ، جلس الصبي بجانبي وكانوا يتكلمون بأعلى صوتٍ وما كأن أحدًا في الترام معهم، والصبي هذا معه عدسات يحاول ارتداءها ورمى علبتها أسفل الكرسي، فقال رجل كأنه في الخمسين: إن خرجت خذ قُمامتك معك! فقال آخر من ورائي: نعم خذها! فسكت الصبي ثم نطق: إذًا سآخذكم معي! وشرع يضحك مع رفيقتاه بأعلى صوت وينالون منهما، والجميع صامتون! ووصلت محطتي ولا أستطيع أن أنزل إلا إن نزل هو أولًا، وخفت أن أقول له كلمة فيحوّل عليّ! ولو كنت في بلدي لعرفت كيف أتصرف، أما في بلاد لا أدري ماذا يُفعل بي فالسلامة السلامة!
فقمت في صمت ولم أنبس بكلمة فلمّا رآني قمت قال أوه تريدين أن تخرجي، تفضلي. بكل احترام! والحمد لله.
السفر
سافرنا مدن عدّة، وهذه ميزة في بريطانية، فالأماكن الجميلة كثيرة، والتنقل سهلٌ ورخيصٌ
فكنا إن اشتهينا تغيير جوّنا، أخذنا قهوتنا ورحنا إلى أقرب قرية وبحثنا فيها عن أقرب حديقة، والحدائق كثيرة عندهم فلا تخلو قرية ولا مدينة منها، حدائقٌ طبيعية غير مُصطنعة، تحس إن دخلتها أنّ أهلها مستحيل أن يكتئبون أو يحزنون، كيف وعندهم كل هذا الجمال الذي يروّح عن النفس؟
في شهر العسل ذهبنا إلى برمنغهام وقُرى حولها مثل قرية شكسبير التي عُدنا إليها لاحقًا لجمالها، ولندن التي عُدت إليها كذلك، وأود أن أزورها مرة ثالثة، فعلى عكس ما اعتقدت أنها مملة ولا تناسبني، أعجبتني وما اكتفيت منها.
وسافرنا بعدها إلى وندر مير(windermere) في منطقة Lake District ونزلنا في فندق هايداواي،
لعلّ الفندق أكثر ما أحببنا! إذ كان كلاسيكيًا، أقرب إلى منزل كبيرٍ من فندق، واستقبلونا بكعكٍ منزلي.
كان الفندق من دورين بأربعة غرف، وبه درج ينفصل إلى جزئين مثل البيوت الإنجليزية القديمة، وفي كل جانبٍ غرفة، وللإفطار تنزل من غرفتك إلى غرفة الطعام وتُخير بين الفطور الإنجليزي، أو فطور إنجليزي نباتي، أو الشوفان، وهذه غالبًا قائمة الفنادق من أمثال هذا.
وأهل النُزل هم من يطبخون لك، بل وإنهم يسكنون فيه، فكأننا بتنا عند أقارب، وكما أقول كان فندقًا حنونًا! حميميًا لا تُحس به بالغربة.
ثمّ كانت البحيرة والأجواء الغائمة والقاربُ الذي سُقناه في وسط البحيرة بين بديع المناظر وهفهفة الهواء، وكنا نتساءل: هذا الجمال ونحن ما نزال في الشتاء، فكيف بالربيع؟
واكتشفنا شاطئًا بعيدًا عن الناس، وبجانبه غابة تجري فيها الشلالات كذلك.

وذهبنا إلى مدينة اسمها ماتلوك matlock
وهي والله أحلى المدن التي زرتها في بريطانية، ونحن نحب تلك المدن الصغيرة التي ليست في القوائم الأولى للسياح عادةً، لأنها تكون أقل تكلفًا وزيفًا، ترى فيها كل شيء على حقيقته. ذهبنا إليها قبيل الخريف في سبتمبر، فكانت أجواءها معتدلة نهارًا تميل إلى البرودة ليلًا، وتستطيع أن تتجول بها كلها في يوم واحدٍ فليست كبيرةً، فيها حديقة واحدة وممر اسمه ممر العُشاق، بين الأشجار بجانب النهر تزينه الأنوار في كل مكان ليلًا، ويتصل به جسر مُضيء كأنك عابر منه إلى النور. ومكان السُياح المشهور هو التلفريك على قمة جبال أبراهام، وكان جميل المنظر مُخضرًا، والخضار والله دواءٌ للعين. وفي ذلك المكان كهفٌ دخلناه وسمعنا سيرة عمّال المناجم وقصصًا عن اكتشاف معدن الرصاص، وكيف مات كل النساء اللاتي كن يستلمن الرصاص من الرجال قبل أن يعلموا مخاطره!
وفيها السوق وسط المدينة فيه المطاعم ومختلف المحلات، ولا تجد بها غير المحلّي، وهذا ما أحب.
ذهبنا إلى مطعمٍ في الصباح لنفطر، فوجدت في الخيارات مكتوبًا: شكشوكة. قلت: ما جلب الشكشوكة عندهم! وطلبتها وليتني لم أفعل، والله ما كانت من الشكشوكة في شيء!
صحن مليء بالصلصة السمجة، وعليها حبات بيضٌ مسلوق زفرٌ وقالوا هذه شكشوكة!
فما طلبت عند هؤلاء القوم شكشوكة بعدها.
وذهبنا إلى مقهى، كان صغيرًا مُلتمًا كأن أركانه تتعانق، ما يجلس فيه غير الشيّاب والعواجيز، وما استغربنا إذ لحظنا أنّا ما نرى في هذه المدن والقرى إلا الكبار! فالشباب يدرسون أو يعملون في المُدن الكبيرة.
ولا أدري إن كان مظهرًا جميلًا أم حزينًا، بل لعلّه خليط بينهما.
حزنت عليهم إذ يجلسون لوحدهم في المقهى، وغرقت في أفكاري كأني هم، فما يضعف قلبي كضعفه عند الكِبار، أتخيل وحدتهم إذ يشعرون أن حبلًا بينهم وبين الزمان انقطع! فلا الأرض التي يعرفونها ولا الناس، وأحس الحنين يفتك بهم، فأنا بنت العشرين يقتلني الحنين تارات كثيرةً فكيف بهم!
وفرحت لأنهم يخرجون ويتمشون ويعيشون الحياة ولم يغلقوا على أنفسهم أبواب المنازل.
قال لي زوجي: انظري إليهم كيف يخرجون في كل مكان يتفسحون ويروحون عن أنفسهم، على خلاف الكِبار عندنا! ولنا يدٌ إذ نرى من البرّ ألّا يخرجوا ولا يتعبوا ولا يمشوا فنفعل كل ما يريدون ونكفيهم كل شيءٍ ونحرص عليهم حرصًا زائدًا كالحرص على الطفل وكله حرصٌ يضر، فزدناهم على مرضهم مرضًا! والبر والله أن نجعلهم يخرجون ويتمشّون.
ومن ماتلوك ذهبنا إلى منطقة مرتفعات قريبةٍ قاصدين مزرعة حيوانات، فكان الطريق والله أحلى ممّا قصدنا! ولا أدري كيف أوصفه غير أنه جنّة في الأرض، فما تمّل التسبيح طوال الطريق، ولا التصوير! وأغلب ما صورت مقاطع فلن أقدر على مشاركتكم إياها. وإني من حبي للمكان بدأت أخطط للمُستقبل، فقلت هنا سنشتري كوخًا كهذه الأكواخ، ثم نترك أولادنا إذا اشتدت سواعدهم وبدأ الشيب يدب فينا ونأتي وحدنا نقضي شهرًا نستجم ونتذكر أيامنا الأولى هذه! نعم كهؤلاء الكبار الذين نراهم. ومن يدري لعلّه كائن!
وكان ممر نمشي به كي نصل إلى محطة القطار التي تُنزلنا في ماتلوك، والممر هذا كأنه ممر حديقة سرية.
ومن ماتلوك أيضًا ذهبنا إلى قرية الترامات التي ذكرتها آنفًا.




زرت مدنًا غيرهم، لكن أغلبهم معروفون، وإن كنت ناصحة من يأتي بريطانية للزيارة فلا يأتي لمشهور الأماكن دون أن يزور وندرمير وماتلوك وما حولهما.
صلاة العيد
قضينا عيد الفطر مع أهلينا في السعودية إذ عدنا في وسط رمضان إلى بعد العيد، أمّا عيد الحج فكان أول عيد نقضيه في بريطانية، وعلى أننا لا نعلم أحدًا نحتفل معه من حولنا، لكن العيد عيدٌ في نفسه فأجمعت أن أفعل كل شيء مُبهج يعطي العيد بهجته في نفوسنا؛ فاشتريت حلويات وغلّفتها كي أوزعها للأطفال في صلاة العيد، واشتريت شوكولاتة للعيد، وفي الصباح عملنا القهوة وأخذنا كامل زينتنا، تزينت كما أتزين إذا قابلت الأهل والأقارب وارتديت فستانًا جديدًا، ثم تقهوينا قهوة العيد، وقبل وقت صلاة العيد-والتي كانت في الساعة العاشرة- أزلت كل الزينة وبدلت ملابسي وخرجنا. كانت الصلاة في غرفة في ملعب المدينة، ولما اقتربنا رأيت نُقطًا تمشي بثيابهم وفساتينهم، وما زال ذات الشعور لمّا ترى هذه الكائنات في العيد تود لو تركلهم!
ورأيت النساء والرجال كذلك، حتى دخلت الغرفة فوجدت خلقًا كثيرًا، وما أدري والله أين كانوا من قبل فما رأيت أحدًا منهم في وِقن! كنت أسمع حديث بعض النساء وكن عربًا، وبعضهم أفارقة، وغير ذلك من جميع الأجناس.
ثم صلينا وبعد الصلاة وزّعتُ الحلوى وخرجنا، وكنت أتامل التأمل المُعتاد في كل مناسبة كهذه، مختلف الأعراق والأجناس والأعمار جمعنا الدين في بلاد الكفر الغريبة، فتزول الغربة في هذا المكان فتنسى أين أنت.
وعدنا مشيًا نتمتع، ثم ذهبنا إلى مانشستر نتغدى لأنها أيام أكلٍ وشربٌ.
والعيد هذا كان أول عيد بعد وفاة أبي رحمه الله، وبكيت كثيرًا ليلة العيد فما كانت وفاته إلا قبلها بشهر ونصف، لكنّي مسحت دموعي وتذكرته لمّا ماتت عمتي في ليلة العيد، فكنت أظن ألّا عيد، فناداني أبي ولم تجف دموعه وأعطاني مالًا وأمرني بالذهاب لشراء حلوى العيد ككل عيد!
كان أبي مُعظّما لشعائر الله، فما نسيت فِعله هذا، وهو ما قوّاني لأحتفل سعيدة وإن كان في القلب غصّة ،وأعظّم شعائر الله كما عظّمها.
فان جوخ
فان جوخ، وما فان جوخ لأمجاد؟ تجد في نفسه ما يُشاكلها، تُحب كلماته التي خطّها في رسائله أكثر من لوحاته. كتبتُ مرة:
"ما أحبه في فان جوخ ليس فنّه ذاته؛ إنما مشاعره.
كان مفرط الإحساس جمالًا وحزنًا، وعلى قسوة حياته وعدمه الحب والحنان إلّا أنه كان نهر عاطفة لا ينضب.
أفهم امتنانه لأخيه ثيو وكيف أن هذا الامتنان بقدر ما يسعده يؤلمه؛ لعجزه عن ردّه..وآه ما أمضّ العجز!"
فثمة رابطة لا أدري كيف أوصفها! وعلمت قبل ذهابي إلى لندن أنّ لوحة دوار الشمس موجودة في متحف لندن الوطني فوضعته في أول المزارات.
ذهبت إليه وكان متحفًا جميلًا، كله لوحات لفنانين بين القديم والحديث، وما كنت أعرف أحدًا من الفنانين لأصدقكم القول، فما أعرف غير فان جوخ. لكني كنت أقف عند كل لوحة آسرة، وما أكثرها!
ثم رأيت لوحته وهي الوحيدة التي تجمّع الناس عليها، كانت باهرة، رأيت دقيق ضربات الفرش وخطوطها، وكأني أحسست مع كل ضربة بوجد من وجدانه، وتذكرت مع كل خطٍ كلماته؛ فخلّدت هذه اللحظة بصورة مع هذه اللوحة.
وكان له لوحتان كذلك لكنها ليستا مشهورتان، والحق أني لم أكن أعرفهما.
وهذا المتحف أمّلني بأنه سيُقيم معرضًا لفان جوخ في الربيع، وكان لنا فيه عضوية-ما استفدنا منها أبدًا- غير أننا كنا نتضاحك طوال اليوم بأننا نُبلاء!
وبقيت أنتظر الشهور حتى انقضت أيامي في بريطانية وجاء الربيع يتبعه الصيف ثم الخريف والشتاء حتى حال الحول وآن الرجوع وما رأيت معرضًا.

وثاني مرة رأيت شيئًا له كانت في المعرض الذي زُرته في يورك مع زميلتي، لم يكن معرضًا للوحاته الحقيقية لكنه أشبه بالمحاكاة، فدخلناه وإذ المكان مزينٌ بزهور دوّار الشمس، وشاشة عرض كبيرة في الأمام وكراسٍ قماشية مطبوع عليها رسمته الليلة المضيئة، وكل الجدران من حولك يُعرض عليها كذلك وتتبدل بين لوحاته، كان العرض عرضًا لحياته ولوحاته وبعض كلامه، واختتم بجملة بالغة الأسى: إن الحُزن لا ينتهي أبدًا!
وفي زاوية المكان محاكاة لغُرفته، وثمة مكان للVR يأخذك في جولة بصرية بين اللوحات بعد إذ صارت واقعًا كأنك فيه تمشي وتنظر! وكان هناك ممر فيه لوحاته على شاشة كذلك.
كانت من حلو التجارب التي ما أظنها تُكرر.



بين المستشفيات
إنّ ثان شعورٍ خامرني بعد الشوق كان الغضب، فسوء الصحة عندهم من مستشفيات وغيرها ينسي الحليم حلمه، وطول مكثي وأنا أعاني ولا أعلم أهو قل علم أم غباءٌ مستفحل أم إهمال متعمد؟ لكنّي أزعم بأن أي سعودي سيُصدم ويتحسر من الفرق، وأصدقكم أن كل مبتعثٍ قابلته اشتكى من هذه الحال، بل إن أهلها يخبرونك ألا تذهب إلى المستشفى والطوارئ إلا إذا كنت على وشك الموت!، وكم سمعت من قصص من انتظروا في الطوارئ ليومٍ وهم في اسوأ الحالات!
أما عنّي فالحكاية طويلة أطول من الأسطر التي سأكتبها اختصارًا، لعلّكم تريعوني سمعكم مع كثير صبرٍ.
أصابني ما في العادة لا يأخذ أسبوعًا في علاجه إن كُنت في السعودية، ونظامهم في بريطانية أن تذهب أولًا إلى مكانٍ شبيه بالمراكز الصحية في السعودية، ولا تطمع بأن تذهب إلى المستشفيات إلا بتحويل، ويغلب على ظنّي أنّ الخاص أيضًا كذلك. نحن وإن كنّا نعاني في المستشفيات الحكومية بمثل ما أذكر، إلّا أنّه يميزنا كثرة الخاص ومعقولية أسعاره، بل وتباينها فتجد الرخيص والمتوسط والغال! أما هم فجرّبت العام والخاص وكلاهما بذات السوء.
المهم أنّي ذهبت إليهم وشرحت لهم المشكلة والموعد لا يأتي إلا بعد أيام-وأنا في مدينة صغيرة فكيف إن كنت في مانشستر؟- ثم التحليل يأخذ أيامًا كذلك، ثم أرسلوا إلي دواءً بجرعة صغيرة فأخذته ولمّا ظننت أنّي شُفيت عاد لي أسوأ، وظللت مدة من الزمان بالأشهر أعود فيعطوني مرةً أخرى جرعات صغيرة متفرقة فلا هم الذين عالجوني ولا هم الذين رحموني بل جلبوا لي مرضًا آخر ببروتوكلاتهم هذه! ولمّا طفح الكيل وصرت ذاهبة آئبة حتّى أنّي حفظت طريق المشفى وكرهته وما رضوا أن يحولوني بعد هذا كله، وما فكّر أحدٌ بحل آخر أو فحص آخر، ففكّرنا في الخاص واستنجدنا الملحقية السعودية في أمرنا، وشهادة حقّ أنّهم ما فتروا ولا قصّروا، بل كانت الرئيسة بنفسها ترد على زوجي في الواتس وتعني أمرنا بنفسها، حتّى أنهم دفعوا فواتيرًا تفوق الثلاثين ألفًا. وعلى ذكر هذا فأسعار المستشفيات فاحشة الغلاء! فالتحاليل والكشفيات العادية تزيد على الألف ريال! وما عندهم خيارات عديدة مثلنا، فأحزن والله على المسكين عندهم، والحمد لله على النعمة عندنا أسال الله أن يديمها من نعمة ويحفظها من الزوال، وألّا يحوجّ أحدًا لمستشفيات بريطانية! أما المستشفى الخاص الذي ذكرت فما كان بأحسن من سابقه! فظللت أعاني كما عانيت طوال مقامي حتّى جاء الفرج وعدنا إلى بلادنا.
ولولا أنّها من خاصة أمري لحكيت لكم التفاصيل التي ستتعبون بسماعها.


أول ثلج وآخر ثلج
الثلج؛ سمعت عنه ولم أعاينه، شاهدته في عشرات أفلام الكرتون، كان حلمي كحلم أترابي، وأظن الإنسان يتشوق لما لم يعتد عليه. وعلى أنّ عقلي ما كان يرى الثلج إلا مرادفًا للحزن، فمشهد موت العم بيتالس بين الثلوج نُقش في عقلي، وبائعة الكبريت ثبتت ما ثبتت من الأحزان على هذه الفتاة الصغيرة، إلّا أنّ أول ثلج شهدته أورث في نفسي فرحًا وبهجةً.
كنا في وِقن مكان ما قطنا، أظنه بعد شهرٍ من مجيئنا؛ صحوت فرأيت الدنيا ابيضّت من حولنا، وما صدّقت نفسي حتى فززت من مكاني وفتحت النافذة فصدّقت عيناي، وممّا زاده بهجةً علمي بأنها أول مرة لعبدالله كذلك يرى فيها الثلج، على أنه مكث في بريطانية كثيرًا. فقمنا ولبسنا وخرجنا فإذ بالفناء مفروشًا بالبياض كأنه الغيم نزل إليها، فطفقنا نلعب به ونضحك ونتراشق بكرات الثلج، وأذكر خروج الناس ذاهبين إلى أعمالهم فإذا بهم يستغربون منّا. وما أعادنا إلا تمكّن البرد منّا على كومة الطبقات التي ارتديناها!
وكما استَقبَلنَا ودّعنا، فقبل عودتنا بأسبوع، هطلت الثلوج هطولًا أعظم من الأول، كأنه يودعنا، فمشينا في شوارع وقن، ومررنا بالنهر الذي ألفناه وألفنا، ونظرنا إلى مبنى وقن بير (Wigan Pier) الذي جاورناه طول سكننا، ولم ندخله مرةً على علمنا بأنه يحمل من التاريخ شيئًا! وعندي كتاب باسمه لجورج أورويل، ما إن وقعت عليه عيني حتّى أخذته، وصورته ذاك اليوم أمامه! ومن العجيب أنّ الجو كان أدفأ يومها، فما بردنا، وأطلنا المسير واللعب والتأمل والتصوير، فقد كان مسير مودّعٍ، ومررنا على الحديقة التي كانت المقصد عند الملل، والمتنفس عند التعب، حديقتنا التي شهدناها تلبس أثواب الفصول الأربع، فشهدنا موتها وحياتها وما بينهما، وشعرنا بحرها وبردها ونسيمها سواءً.
ها هنا أمام البحيرة فرشنا وأتينا مع قهوتنا التي ما إن نصبها حتى تبرد بعد ثانيتين! وهنا أوقفتنا عجوز فجأة وبدأت تسأل عن بطة مفقودة وتحكي لنا عن أخرى ماتت العام الفائت. وعند هذه المساحات الخضراء كم ركضنا نتريض، وتحت تلك الشجرة خرجنا نتنزه أول الربيع، وزُيّن للحشرات مشاركتنا حلانا وقهوتنا! ومشيت في أرجاء المعمورة أغني: "يومًا أمي قصتها علي قالت كانت كالعود طري، تحمل كبريتًا في السلة طفلة بل أجمل من طفلة... والثلج هطول في الشارع لا أحد فيه ولا بائع"
ولكنّي غنيتها فرحةً، ولعلها كانت فرحةً خامرها كدرٌ، كما جئت أول مرة بكلتا الشعورين؛ فارقت وِقن بذات الشعور، وقن تلك المدينة الصغيرة التي لم أقابل فيها سعوديًا واحدًا، ولا حتى عربيًا إلا في صلاة العيد.
المدينة الهادئة التي ما ظننتها تُعرف لولا نادي الكرةّ الذي طالما رأيت مشجعيه يهتفون. مدينة هادئة رقيقة احتضنتنا طوال هذه الشهور. ودّعنا الثلج وودعناه، فذاب الثلج عن المدينة، وخرجنا منها ولا أظن أحدًا يذكرنا، سوى جدران شقتنا، والنهر، والحديقة وبطاتها، ومحطة القطار، وزوايا المشفى الذي ترددت عليه كثيرًا، وثلجها إن حضر.




الختام
كنّا نمشي في شارع أكسفورد في مانشستر عصرًا فسألته: أتظنك تحُنُّ لها؟ فقال: نعم.
فقلت: أكنت تحن لها إلّم أكن معك؟ قال: لا، ما عرفت بريطانية إلا معك، لولاك لظللت غير مكترثٍ.
فقلت: إذن حنينك لذكرياتنا ها هُنا، إنّما بالرفيق لا المكان.

قلبٌ دهاق، عقلٌ لا يسكَن، روحٌ صُبغت بالرمادي. هُنا أفكّر وأدوّن.